الاثنين، 25 أبريل 2016

رسائل الروح


في حياة كل إنسانٍ منَّا موقفٌ أو حدثٌ لا تعود الحياة بعده كما كانت قبله .. نقطةُ تَحَوُّلٍ تُغَيِّر مسار حياتك وتقلب كل موازينها رأسًا على عقبٍ .. جرسُ إنذارٍ يَقْرَعُ في رأسك كي تُعيد ترتيب أفكارك وطريقة تعاملك مع حياتك القصيرة .. صفعةٌ تُزلزِل كيانك كله لتمنحك الفرصة كي تصحِّح أخطاء الماضي .. رسالةٌ ربانيّةٌ تجعلك تُراجع حساباتك مع نفسك ومع مَنْ حولك ومع ربك مِن جديد.

قد تكون تلك الرسالة عبارةٌ عن فَقْدٍ لعزيزٍ اختطفه طائرُ الموت فجأةً من بين أحبائه وأصحابه وأهله، في وقتٍ لم يَدُرْ بِخُلْدِ كائنٍ كان أن يكون الموت قريبًا بهذه الدرجة .. فقد يَغترُّ الإنسان بصحته وصغر سنِّهِ ويظن بأن الموت بعيدٌ عنه للدرجة التي تجعله يستبعد حدوثه، فيأتي فَقْدُ عزيزٍ لديه ليكون كاللطمة المزلزلة لكيانه كي يتذكر أنه مهما أخذته الدنيا بزينتها ومهما خدعته بِبُهرجها ومهما أغوته بالمال والولد والصحة ومهما فتنته بسحرها وعطائها، فإن الزينةَ والبُهرجَ والمالَ والولدَ والصحةَ زائلون.

وقد تكون تلك الرسالة عبارةٌ عن موقفٍ عابرٍ أو لحظةٍ ما يتوقف أمامها الإنسان فجأةً بلا مقدماتٍ، فتكون سببًا في تغيير مجرى حياته إلى الأفضل.

وقد تكون تلك الرسالة عبارةٌ عن آيةٍ من كتاب الله أو فَقْرةٍ في كتابٍ تَقَعُ عيناك عليها فتتغلغل بين تلافيف مخك ومنه تنتقل إلى قلبك ثم تمس روحك فتستحوذ عليها لتملك كل كيانك في لحظةٍ نورانيةٍ ربانيّةٍ نادرةٍ، إذا تتبعتها ستأخذ بيدك إلى آفاقٍ رحبةٍ تنتشلك من واقعك المليء بالخطايا، لتسمو بك وتُطَهِّرُك من الآثام التي تُلَوِّث عقلك وقلبك وروحك.


الرسالة الأولى: وسيم - الثلاثاء 15 ديسمبر 2015


وَقَفْتُ أمام قبره لحظة دفنه وأنا أُوَدِّعَهُ إلى مثواهِ الأخير .. مذهولاً مصدومًا غير مُصدقٍ أنه لم يَعُدْ بيننا وأنني لن أراه في حياتي مرةً أخرى .. لن أسمع صوت ضحكاته المرحة .. لن أرى ابتسامته التي لم تفارق وجهه في حياته .. لن نجلس سويًا على المقهى .. تذكرت مواقفي معه في الكلية خلال سنوات الدراسة الأربعة في قسم عمارة .. تذكرت عملنا معًا في نفس الشركة بعد التخرج .. تذكرت مقابلاتنا على المقهى ونحن نلعب الطاولة، فأهزمه في الطاولة 31 ويهزمني في المحبوسة، ثم نظل نتسامر ونتذكر أيام الدراسة ونضحك وقد انفصلنا عن هموم الحياة ونسينا مشاكل العمل التي لا تنتهي .. تذكرت إفطارنا معًا كل رمضان .. تذكرت زياراتنا المتكررة لبيت والديه قبل زواجه .. تذكرت والده وأخيه وأختيه وجدته الطيبة التي لم أرَ وسيم حزينًا كحزنه عليها يوم وفاتها .. تذكرت مكالماتنا التي كانت لا تقل عن ساعةٍ كاملةٍ في كل مرةٍ والتي لم تنقطع حتى وفاته .. تذكرت فرحته بولديه مازن وحازم .. تذكرت مرضه وشكواه المستمرة من آلام ظهره التي ظل يعاني منها كثيرًا في سنواته الأخيرة .. تذكرت وقوفي ليلة وفاته أمام المغسلة بالمستشفى وأنا في حالةِ ذهولٍ .. تذكرت جنازته هذا الصباح والتي حضرها مئات الأشخاص وهم يبكونه في صدقٍ غير مصدقين مثلي أنه قد تُوُفِّيَ .. تذكرت جسده المُسَجَّى في نعشه وأنا أُلقي عليه نظرةً أخيرةً .. انهارت دموعي أنهارًا بينما يصدح في رأسي فجأةً صوت أحمد منيب يشدو في حزنٍ وأسى:

في دايرة الرحلة .. طُرُق بنا تِخْلَى
آه يا حبيب عمري .. وصُحبتي وقمري
عيون مرة تِبعد .. خطاوي مرة تِعند
حنين جوّانا يحكي .. وشوق جوّانا يبكي
والدمع ساقية كبت
في دايرة الرحلة .. طرق بنا تخلى .. طرق بنا تخلى .. طرق بنا تخلى

من بين دموعي التي لم أستطع كبح جِماح هُطُولها أمام قبره، مرَّ شريط الذكريات أمام ناظريَّ سريعًا في ومضاتٍ خاطفةٍ .. تلك الذكريات التي جمعتني بأطيب من عَرَفْتُ في حياتي .. وسيم.
أدركتُ قبل أنْ أغادر المقابر أنَّ هذه اللحظة ستكون لحظةً فارقةً في حياتي، وأنَّ قادم الأيام لن يكون كسابقها.


الرسالة الثانية: الخامسة والثلاثون - السبت 16 يناير 2016

اليوم أُتِمُ عامي الخامس والثلاثين .. ينتابني شعورٌ غريبٌ بانتهاءِ مرحلةٍ لن تعود، وبابتداءِ مرحلةٍ جديدةٍ بغموضها وأسرارها ومسئولياتها.
اليوم بَدَأْتُ أُدرك لماذا لا يفرح أبي دائمًا بيوم مولده منذ أن بلغ نفس العمر تقريبًا.
أشعر وكأن دورة الحياة قد بلغت ذُروتها اليوم، وسوف تبدأ في الانحدار بدءًا من يوم غدٍ .. قلبي يخبرني بذلك .. حتى التقويم على الحائط يخبرني بذلك .. فاليوم هو 16/1/16 .. كأنه نقطة انعكاس لما سبقه من سنوات.
اليوم أُتِمُ عامي الخامس والثلاثين .. وقد رحل عن الحياة صديقٌ من الأعزاء قبل أيامٍ قليلةٍ .. فهل بدأ العِقْدُ في الانفراط؟! .. هل أكون أنا القادم؟!
اليوم أُتِمُ عامي الخامس والثلاثين .. أشعر أن ذلك الطفل الذي كُنْتُهُ لن يعود مرةً أخرى .. اليوم يُولَدُ شخصٌ آخرَ جديدٌ يريد أن يتعلم من أخطاء الماضي .. فربما ما بَقِيَ من العمر لن يكون بقَدْرِ ما مضى منه.
لا بد أن أغتنم كل دقيقةٍ من وقتي - بل كل لحظةٍ - وأستمتع بها في فعل ما أحب ..
أقرأُ كتابًا ..
أكتبُ خواطري ..
أحفظُ آياتٍ من كتاب الله ..
أذهبُ إلى مكانٍ جديدٍ لم تطأه قدماي ولم تَرَهُ عينايَ من قبل ..
أُمَارسُ الهواية التي أحبها ..
أخرجُ مع أصدقائي المقربين ..
أقومُ بجولةٍ نيليةٍ في مركبٍ صغيرٍ ..
ألعبُ كرة القدم مع أصدقاء الطفولة ..
أسافرُ مع أسرتي في إجازة نهاية الأسبوع ..
أستقلُ القطار إلى مدينةٍ لم أزُرْها ..
أبِرُّ والديَّ وأصِلُ رحمي ..
أفعلُ الأشياء التي كانت تسعدني في طفولتي دون أن أخجلُ بحجة أنني قد كَبِرْتُ ..
أذهبُ إلى دار الأوبرا وأستمتعُ بحفلٍ موسيقي..
أصعدُ إلى سطح بيتي ليلاً بعد أن ينام الناس وأنظرُ إلى السماء وأخاطبُ الله وأبُوحُ إليه بما يُثقلُ على قلبي من همومٍ وما يجثم على روحي من آلامٍ ..
أفعلُ أي شيءٍ يُدخلُ السعادة إلى قلبي .. لن أكون روتينيًا ..
سأجعل يومي مُختلفًا عن سابقه ..
لن أتعلل بضغط العمل ومسئوليات الأسرة ..
لن أقول: " لقد كَبِرْتُ " ..
لن أتكاسل ولن أتصنع العوائق لنفسي ..
لن أجعل حياتي مملةً رتيبةً ولن أصنع من أيامي صورةً متكررةً، فأنا لن أعيش إلا حياةً واحدةً واللحظة التي تمر فإنها لن تعود مرة أخرى ..
لن أحبس نفسي في سجنٍ أنا من يملك مفتاحه .. سأطرقُ كلَّ بابٍ للسعادة .. وبإذن الله ستكون مفتوحةً.


الرسالة الثالثة: إذاعة الأغاني - الخميس 21 يناير 2016

أنتهيتُ لِتَوِّيَ من قراءة آخر روائع كاتبي الأثير عُمر طاهر (إذاعة الأغاني) .. كان الكتاب هو أول ما قرأتُ بعد وفاة صديقي (وسيم) رحمه الله .. أخذتُ بنصيحة أحد أصدقائي المقربين بأنْ أبدأ في قراءة كتابٍ ما حتى أخرج من جو الاكتئاب الذي لازمني منذ صدمة رحيل (وسيم) .. عَرَضتُ على أصدقائي في (جروب القراءة) على (فيس بوك) أن يرشِّحوا كتابًا نقرأه سويًّا، فوقع اختيارهم على .. (إذاعة الأغاني) .. لم أكن متحمسًا للقراءة في البداية، لكن سُرعان ما شدَّني الكتاب بفكرته وموضوعاته.

فكرة الكتاب عبقريةٌ .. مَنْ فينا لا ترتبط ذهنيًّا عنده أغنيةٌ معينةٌ سمعها لأول مرةٍ مقترنةً بموقفٍ ما في حياته؟ .. أو كما لخَّص عُمر طاهر الفكرة في مقدمة الكتاب عندما قال: "بينما تجري الحياة .. ثمة أغنيةٌ ما تدور في الخلفية. بينما تدور أغنيةٌ ما .. ثمة حياةٌ تجري في الخلفية".

من بين الحَيَوَات والأغنيات الكثيرة التي جرت فوق صفحات الكتاب، استوقفتني ثلاثُ فَقَرَاتٍ كانت مُتَخفِّيةً بين السطور وبين الألحان، لكنها حَمَلَتْ بين حروفها وميضًا كـ(فلاش كاميرا) سطع فجأةً وسط الظلام، انعكس على عقلي بثلاث ومضاتٍ خاطفةٍ تَوَقَّفْتُ أمامها بكثيرٍ من التفكير والتدقيق، لأشعر وكأن (عمر طاهر) كان يقصدني أنا بالذات، أو كأن الله سخَّر (عمر) لي ليجعل من كلماته وسيلةً لإيصال رسالةٍ من روحه إلى روحي .. رسالةٌ جاءت في توقيتٍ مثاليٍّ، أو كما قال (عمر) في حكايته (فرصة عُمْر): "بعيدًا عن كل تلك اللحظات التي تقول إنك كبرت، يظل الشعور الحقيقي بالمسألة مرتبطًا بلحظةٍ مُفْرَغةٍ لا حدث فيها. مجرد رسالةٌ عابرةٌ يلتقطها العقل بدون مقدماتٍ من مكانٍ مجهولٍ، تقول للواحد إنه تجاوز مرحلةً ما في الحياة، بينه وبينها ما يكفي الآن لأن يتأملها بهدوء."

لقد كنت بالفعل في حاجةٍ ماسةٍ إلى رسالةٍ كتلك كي أتأملها في هدوءٍ .. كانت أُولى رسائل (عمر) لي في حكاية (فرصة عُمْر) تقول: ((أنا أشعر بإرهاقٍ ما في هذه اللحظة لم أعرفه من قبل، أنا أيضًا لديَّ أحزانٌ لم أتوقف عندها لأعطيها حقها من الانتباه. كانت قفزاتي أوسع مما يجب، لدرجة أنني لم أتوقف لأتأمل ما سقط من جيوبي أثناء القفز، كنتُ ألهث دون أن أعطي شيئًا واحدًا في حياتي حقه كاملاً، ومثلما يسابق الكلارينت صوت الحلاني كنت أنا أسابق الحياة بحثًا عن شيءٍ ما لا أعرفه. الآن تحديدًا يُوجعني بشدةٍ أنني لا أعرفه .. لقد كبرت.))

ثاني رسائل (عمر) لي كانت في حكاية (حلوة يا بلدي)، يقول لي فيها: ((أَمُرُّ كل يومٍ بمحلٍ يبيع الأدوات الموسيقية، يضع في الفاترينة جيتارًا أبيض اللون، أتوقف أمامه كل مرةٍ وأسأل نفسي: هل أدخل لأشتري هذا الجيتار أم أنه يجب أن أتعلم العزف أولاً؟
كنتُ أخاف أن يستغرقني تعلم العزف فيضيع مِنِّي الجيتار الأبيض ويشتريه شخصٌ آخرَ، وكنتُ أخاف أن أشتري الجيتار ثم أكسل عن تعلم العزف فيتحول إلى قطعة ديكور في غرفتي.
مرت فترة طويلة دون أن أحسم قراري، لم أتعلم العزف، ولم أشترِ الجيتار، اكتفيت فقط بأن أَمُرُّ به كل يومٍ لأطمئن أنه ما زال معروضًا للبيع.))


كانت رسالة (عمر) الثالثة لي في آخر حكايات الكتاب (نور العين)، وكان يقول لي فيها: ((يحدث أحيانًا أن يقع الواحد من نفسه، يفقد فجأةً كل ما يعرفه من أهدافٍ أو أحلامٍ، أو ربما يسير بداخل واحدٍ منها بلا وعي، يسقط عن الواحد إحساسه بالزمن، ربما من فرط الرتابة أو فرط الإثارة، تسيطر ميكانيكيةٌ ما على طريقة حياته، فهو يتحرك بالفعل، لكن جسده فقط هو الذي يتحرك، بينما لا توجد بقعة نورٍ واحدةٍ في الروح أو الوعي.
تهجم هذه اللحظة عليك دون أن تدري، لن تعرف أنك كنت تسير فاقد الوعي إلا مع لحظة النهاية، عندما يحدث ما يجعلك تستفيق، تعود إلى روحك فتعرف أنك كنت بعيدًا، هناك من يغادر لحظات اللاوعي هذه بصدمةٍ، وهناك من يُوَدِّعُها على باب فرحةٍ مفاجِئةٍ، هناك من يحتاج إلى جلسة كهرباءٍ أو ما يُشْبهها، لكن في كل الأحوال عند عودتك ستسأل نفسك كثيرًا: أين كنت؟ وكيف انقضت تلك الفترة وأنت مُنَوَّمٌ؟ ستفكر كثيرًا، لكن لحظة الإفاقة ستمحو كل ما سبق، وستجعلك تمسك بطوق نجاةٍ ألقته إليك سفينةٌ لم تكن تبحث عنك.))


شكرًا (عمر طاهر) .. لقد وَصَلَتْ رسائلُك إليَّ كاملةً .. فَقَدْ كان كتابك (إذاعة الأغاني) هو السفينة التي لم تكن تبحث عنِّي .. لكنها ألقتْ إليَّ بطوق النجاة الذي أنقذني من الغرق ليُوصِلني إلى الشاطئ بسلامٍ.

الأربعاء، 6 أبريل 2016

رواية (قرية ظالمة) - محمد كامل حسين



الرواية عبارةٌ عن كتابٍ فلسفي من الطراز الأول، صاغه الكاتب في قالبٍ روائي .. لذلك لا أعتبرها روايةً، حيث أنها تختلف في أسلوبها وعناصرها وحواراتها عن الشكل التقليدي للرواية، وأعتقد أن تقييمها باعتبارها "رواية" سيكون فيه ظلمٌ وغُبنٌ كبيرٌ لها لافتقادها عناصر الرواية المتعارف عليها عند أهل الأدب، والأفضل هو التعامل معها باعتبارها "كتابًا فلسفيًّا" استخدم فيه الكاتب ألعابًا عقليّةً في شكل حواراتٍ ومناقشاتٍ تشحذ العقول وتثير الفكر، تغوص في أعماق النفس البشرية بطباعها وتقلباتها ونظرتها – التي تختلف من شخصٍ لآخرٍ ومن جماعةٍ لأخرى – لعددٍ من المفاهيم الحياتية؛ كالحق والباطل والضمير والحب والعدل والعلم والدين والإيمان والرمز والألم والخير والشر والنظام والحرب والبطولة والخيانة.

وقد استخدم الكاتب - لإيصال رؤيته - حدثًا محوريًا ومؤثرًا في تاريخ البشرية، وهو قضية صلب السيد المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام، طارحًا الأمر – بعيدًا عن الجوانب التاريخية والدينية للحدث – من خلال ثلاث زوايا وأُطُرٍ مختلفةٍ، فقسَّم الكتاب لثلاثة أقسامٍ متصلةٍ منفصلةٍ تدور جميعها في اليوم الذي اجتمع فيه بنو إسرائيل لتنفيذ حُكمهم الظالم بصلب المسيح عيسى عليه السلام؛ القسم الأول: عند بني إسرائيل، والقسم الثاني: عند الحواريين، والقسم الثالث: عند الرومان .. وكيف أن كل طرفٍ من الأطراف الثلاثة قد اختلفت رؤيته للحقيقة الواضحة الجليّة (دعوة المسيح ورسالته السماوية)، وكيف انتهى الأمر بإصدار بني إسرائيل الحُكم عليه بالإعدام رغم أنهم أهل دينٍ وقيمٍ، إلا أن تفقههم في الدين لم ينجهم من الضلال لأنهم رفضوا أن يحتكموا إلى "ضميرهم" .. ثم ينقلنا الكاتب لاجتماع الحواريين بعد إصدار الحُكم، وكيف أنهم اختلفوا حول كيفية تعاملهم مع الحدث ودفاعهم عن معلمهم وقائدهم، رغم أنه لم يكن على وجه الأرض وقتها من هم أطهر منهم نفسًا وأعظم خُلُقًا، إلا أنهم كادوا أن يقعوا في الفتنة لولا تدخل الحكيم الماجي.

وخَلَصَ الكاتب في النهاية إلى أن البشر لا يتعظون أبدًا، وسيختلفون حول قضايا ومفاهيم حياتية - قد تبدو بديهيةً - مهما كانت الحقيقة جليّةً، وأرجع ذلك إلى أن هناك ثلاث قوى تعمل في حياة البشر وهي: "القوة الحيوية" وما فيها من غرائزَ وشهواتٍ ونزعاتٍ، و"قوى العقل" وما فيها من قدرةٍ على المعرفة، و"قوة الضمير" وما فيها من إدراكٍ للحق والباطل .. ويرى الكاتب أن كل قوةٍ منهم تحتوي على خيرٍ وشرٍ .. ويرى أن أوجه الخير في القوى الثلاث تتعارض فيمحو خيرُ كلٍ منها خيرَ الأخرى وينجم الشر! في حين أن أوجه الشر في القوى الثلاث تتحد فيشتد بأسها! .. ويرى أن لكل قوةٍ فريقًا يؤمن بأن السيادة يجب أن تكون للقوة التي يؤمن بها فيتعصب لها .. ويرى أن أصل الداء هو أن كل فريقٍ يؤمن إيمانًا مطلقًا بأن القوة التي يتبعها هي الصواب، وأن كل من خالفها فهو على خطأ .. ويرى أن الحل والإصلاح إنما يكون في تهذيب هذه القوى الثلاث كي لا يطغى إحداها على الأخرى، وأن الاعتدال وحده هو الذي يجمع هذه القوى على الحق، فتكون بذلك "القوة الحيوية" مصدر نشاطٍ، وتكون "قوة العقل" دليلاً وهاديًا، وتكون "قوة الضمير" مانعةً لهما من الشطط.

وربط - في خاتمة كتابه – بين تلك النظرية وبين ما حدث من بني إسرائيل والحواريين والرومان يوم جمعة الحُكم بإعدام المسيح، حيث تجمّعت كل عوامل الضلال والخطأ في ذلك اليوم فحدث ما حدث .. فإذا ما تعلم الناس - في يومنا هذا - الدرس المستفاد مما حدث ونجحوا في تجنب عوامل الضلال والخطأ وهذبوا من غرائزهم وعقولهم وضمائرهم، فسوف يرون الحق حقًا والباطل باطلاً .. أما إذا ما تعصب كل فريقٍ للقوة التي يتبعها دون اعتبارٍ لبقية القوى، فسوف يرون الحق باطلاً والباطل حقًا، وبالتالي سيطالبون بإطفاء كل شمسٍ ساطعةٍ وسيعملون على طمس كل آيةٍ بيّنةٍ وصلب كل حقيقةٍ جليّةٍ وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.

الاثنين، 28 مارس 2016

استمتع بحياتك

اغتنم كل دقيقةٍ من وقتك - بل كل لحظةٍ - واستمتع بها في فعل ما تحب ..
اقرأ كتابًا ..
اكتب خواطرك ..
احفظ آياتٍ من كتاب الله ..
اذهب إلى مكانٍ جديد لم تطأه قدماك ولم تره عيناك من قبل ..
مارس الهواية التي تحبها ..
اخرج مع أصدقائك المقربين ..
قم بجولةٍ نيليةٍ في مركبٍ صغيرٍ ..
العب كرة القدم مع أصدقاء الطفولة ..
سافر مع أسرتك في إجازة نهاية الأسبوع ..
استقل القطار إلى مدينةٍ لم تزرها ..
بِر والديك وصِل رحمك ..
عرِّف من تحبه أنك تحبه ..
افعل الأشياء التي كانت تسعدك في طفولتك دون أن تخجل بحجة أنك قد كبرت ..
اذهب إلى دار الأوبرا واستمتع بحفلٍ موسيقي ..
اصعد إلى سطح بيتك ليلاً بعد أن ينام الناس وانظر إلى السماء وخاطب الله وبُحْ إليه بما يُثقل قلبك من همومٍ وما يجثم على روحك من آلامٍ ..
افعل أي شيءٍ يُدخل السعادة إلى قلبك ولا تكن روتينيًا ..
اجعل يومك مختلفًا عن سابقه ..
لا تتعلل بضغط العمل ومسئوليات الأسرة ..
لا تقل: ''أنا كبرت'' ..
لا تتكاسل ولا تصنع العوائق لنفسك ..
لا تجعل حياتك مملةً رتيبةً ولا تصنع من أيامك صورةً متكررةً، فأنت لن تعيش إلا حياةً واحدةً، واللحظة التي تمر لن تعود مرة أخرى.
لا تحبس نفسك في سجنٍ تملك أنت مفتاحه .. واطرق كل بابٍ للسعادة، صدقني .. ستجدْه مفتوحًا :)

الخميس، 24 مارس 2016

حكايتي مع عمارة (8) .. قسم عمارة، مصنع الرجال



هناك اعتقادٌ سائدٌ لدى طلاب كلية الهندسة عامةً بأن قسم عمارة قسمٌ دخيلٌ على الكلية ولم يكن ينبغي له أن يكون من بين أقسامها ..
فمنهم من يقول بأن قسم عمارة هو "أدبي هندسة" ..
ومنهم من يدَّعي بأن قسم عمارة هو "قسم الفرافير" ..
ومنهم من يؤمن بأن طلاب عمارة لا يحملون همًّا للدنيا ولا يشغل بالهم إلا الاستماع إلى الأغاني والخروجات التي لا تنتهي بحجة الأبحاث ..
ومنهم من يشيع – تصوروا؟! - بأن "بنات هندسة الحلوين" لا تجدهن إلا في قسم عمارة!! .. بل ويحسدوننا – نحن "أولاد عمارة" - على ذلك !!..
لا أدري في الحقيقة من أين جاءت لهم هذه الخيالات والأوهام .. فهؤلاء لم يجرِّبوا أن يواصلوا الليل بالنهار – دون نومٍ – ليومين وأحيانًا لثلاثة أيامٍ متصلةٍ، كي ينهوا – بالكاد - مشروع مادة التصميم أو يسلِّموا لوحات مادة الـ Working أو ينتهوا من بحث مادة الـ Urban في موعده ..
هؤلاء لم يُوضعوا تحت ضغط العمل لعددٍ من الأبحاث والمشاريع تخص ست موادٍ دراسيةٍ مختلفةٍ في توقيتٍ واحدٍ ..
هؤلاء لم يجرِّبوا إحساس أن تمتحن مادةً زمن إجابتها ثمان ساعاتٍ – مادة التصميم المعماري – بل وتتمنى لو يمتد وقت الامتحان لثمان ساعاتٍ إضافيةٍ أخرى .. يقف فيهم طالب عمارة محنيّ الظهر دون أن يجلس، مُطَالَبًا بأن يقوم بعمل رسوماتٍ تصميميةٍ كاملةٍ من مساقطَ وواجهاتٍ وقطاعاتٍ ومنظورٍ وإظهار كل ذلك وتلوينه بعد أن يأتي بفكرةٍ تصميمةٍ لمشروعٍ ما، لم يره ولم يسمع عنه في حياته إلا داخل لجنة الامتحان !!.. هؤلاء لم يجرِّبوا ذلك الشعور لأن أقصى وقتٍ قضوه في امتحان أي مادةٍ من مواد أقسامهم لم يتجاوز الثلاث ساعاتٍ ..
هؤلاء قد تعوَّدوا على رفاهية "فونسة" اللوحات ونقل "شيتات" الـ Steel والـ Structure والـ Concrete، ثم في النهاية يقولون على طالب عمارة أنه "فرفور" !!..
هؤلاء كان مشروع تخرجهم يتم في إطار مجموعةٍ لا تقل عن ثلاثة طلابٍ، بينما طالب عمارة "الفرفور" هو الوحيد بين طلاب جميع أقسام الكلية الذي يقوم بتنفيذ مشروع تخرجه بمفرده ..
هؤلاء يتناسون أن طالب عمارة هو الوحيد بين طلاب جميع أقسام الكلية الذي لا يعرف طعمًا للإجازات أيام الجمع والأعياد، حيث يقضي طالب عمارة وقته أثناء هذه الإجازات في عمل بحثٍ مع مجموعته، أو تبييض مشروعٍ بصالة الرسم بالكلية، أو زيارةٍ ميدانيةٍ لمكانٍ يتطلبه أحد الأبحاث أو المشاريع ..
هؤلاء لا يعرفون إحساس أن تمكث خارج البيت بالأيام لا ترى أهلك وتأكل من الشارع، ويكون بيتك هو "صالة الرسم" بالكلية والتي يقضي بها طالب عمارة ثلاثة أرباع وقته في أغلب الأيام، بينما ينصرف الآخرون مهرولين إلى منازلهم بعد انتهاء اليوم الدراسي في الثالثة عصرًا - على أقصى تقديرٍ – للحاق بوجبة الغداء مع أهليهم والاستمتاع بالنوم ساعة القيلولة ..

كنت أتحدث منذ أيامٍ مع أحد أصدقائي عن العمل ومشاكل الحياة، فقال لي: "مهنة الهندسة شاقة .. كان الله في عونكم وقدَّركم على الضغط الذي تعانون منه في عملكم".
ابتسمت وأنا أتذكر أيام الشقاء أثناء الدراسة بالكلية، وقلت له: "لن تصدقني إذا قلت لك أنه رغم أنني أعمل منذ ما يقارب الأربعة عشر عامًا منذ تخرجي وحتى اليوم، إلا أنه مهما بلغت درجة الضغوط والصعوبات في العمل فإنني لم أرَ في حياتي ضغوطًا وصِعابًا أكبر مما مررت به في السنوات الأربعة التي قضيتها في دراسة العمارة .. وهذا ساعدني في عملي وفي حياتي بوجهٍ عامٍ على اجتياز أية ضغوط قد تحدث لي بكل بساطةٍ، فمهما زادت فلن تبلغ ربع ما مررت به أثناء الدراسة في عمارة".
وسرحت بعيدًا وأنا أتذكر تلك الأيام الصعبة والتي – رغم مشقتها وقسوتها – أتمنى لو تعود الصحبة واللمة التي كانت تجمعنا داخل جنبات صالة عمارة بمناضدها الضخمة ومشاريعنا المتراصة عليها وكراسيها العالية وسهراتنا ولحظات الفرح ولحظات المرارة ..
أتمنى لو كانت الذكريات الجميلة يمكن أن تترجم إلى واقعٍ ملموسٍ يمكن معايشته وتكرار مشاهده وأحداثه .. لكن – بكل أسفٍ – تبقى الذكريات دائمًا حبيسةً داخل جدران عقولنا وقلوبنا، وأقصى ما يمكن أن نفعله - كي نحررها من محبسها - أن نتحاكى بها في جلسة سمر مع أصدقاء العمر، أو نخرجها في صورة كلماتٍ على الورق ننفث بها عما يجيش في صدورنا من حنينٍ وشوقٍ لأيامٍ لن تعود.

السبت، 19 مارس 2016

رواية (مزرعة الحيوان) - جورج أورويل



للوهلة الأولى قد يبدو للقارئ أن هذه الرواية مخصصة للأطفال نظرا لأن أبطالها من الحيوانات .. لكن ما أن تتوغل في أحداثها حتى تجد نفسك وقد فغرت فاك من الذهول، فحيوانات تلك المزرعة يتشابهون إلى حد التطابق التام مع شخصيات واقعنا الذي نعيشه .. بل أجزم أن هذه الرواية تصلح لكل الأزمان ولكل الشعوب التي مرت أو تمر أو ستمر بالثورة وتوابعها بكل مراحلها وبمنتهى الدقة وبنفس التفاصيل والشعارات والشخصيات! .. ولو لم أكن أعرف أن جورج أورويل قد كتب هذه الرواية عام 1945 وأنه توفي بعدها بخمس سنوات عام 1950، لقلت أن هذه الرواية قد كتبت بعد 3 يوليو 2013 !.
فلو حاولنا إسقاط شخصيات الرواية على واقعنا الحالي بعد هذا التاريخ الذي ذكرته، لوجدنا ما يلي:
- ألا يرمز السيد جونز صاحب المزرعة المطرود إلى الرئيس السابق حسني مبارك؟!
- ألا يرمز الخنزير ميجور العجوز إلى كل من نادى أيام حكم مبارك بضرورة الثورة؟!
- ألا يرمز الخنزير نابليون وخنازيره المقربون إلى النظام الحاكم الآن؟!
- ألا يرمز الخنزير سنوبول إلى مرسي وجماعة الإخوان، والذي يلصق به سنوبول وإعلامه دائما أي مصيبة أو تخريب يحدث بالمزرعة؟!
- ألا ترمز الكلاب الشرسة التي تحمي نابليون وحاشيته إلى الشرطة .. والذين يمثلون مصدر تهديد ووسيلة ردع لكل حيوان تسول له نفسه الاعتراض أو حتى مجرد التفكير بشيء من المنطق؟!
- ألا يرمز الخنزير سكويلر إلى أبواق إعلام النظام، والذي يبرر للحيوانات دائما كل قرار وكل تصرف يصدر من نابليون ويشوه سمعة كل من يعارض هذه القرارات، ويلمح مع كل قرار مجحف لنابليون إلى أن ذلك أفضل من عودة النظام القديم؟! .. ألا ترون أن سكويلر يشبه إلى حد مرعب أحمد موسى؟!
- ألا يرمز الغراب موسى إلى رجال الدين الذين يستغلون الدين ويلوون عنق أحكامه لخدمة أغراض السلطة الحاكمة .. وإيهام الحيوانات دائما بأنهم يجب أن يتحملوا الفقر في الدنيا بكل صبر ورضا أملا في الخيرات الذي تنتظرهم خلف جبل الحلوى الذي سيذهبون إليه بعد الموت؟!
- ألا يرمز الحمار بنجامين إلى المواطن العجوز الذي عاصر أكثر من حاكم للمزرعة، ولا يعترض على فساد أو ظلم مهما حدث ويقف دائما موقف المتفرج، ولا يتدخل ولا يبدي رأيه في أي أمر من أمور السياسة إيمانا منه بنظرية ''أن الحمير تحيا لوقت طويل .. إن أحدا منكم لم ير حمارا ميتا''؟!
- ألا يرمز الحصان بوكسر إلى الموظف المخلص الذي يعمل بكل جد وإخلاص وتفان في عمله لتحقيق أغراض ورغبات وشعارات السلطة الحاكمة، ظنا وإيمانا صادقا منه أنه بذلك إنما يخدم الوطن، تطبيقا لنظرية ''سأعمل بجهد أكبر .. نابليون دائما على حق''؟!
- ألا ترمز الخراف إلى عامة الشعب الذين يؤيدون الحاكم على طول الخط أيا كانت قراراته ومهما كانت متضاربة فإنهم يهللون لها ويرددونها في حماس من أعماق قلوبهم؟! .. تذكروا رفضهم في البداية لطرد السيد جونز بحجة أن ''السيد جونز يطعمنا .. فلو ذهب لمتنا جوعا'' .. ثم هتافهم الدائم - بعدما انفرد نابليون بالحكم - لشعار ''الخير في الأقدام الأربعة والسوء في القدمين'' ثم تغييرهم للشعار بين عشية وضحاها لمجرد أن نابليون قد غيره حين راحوا يرددون بنفس الحماس السابق ''أربعة أقدام جيد .. قدمان أفضل''، رغم أن الشعارين متناقضان؟!
- ألا يرمز السيد فريدريك إلى منظمة حماس، ومزرعته المجاورة لمزرعة الحيوان ترمز لقطاع غزة؟!
- ألا يرمز السيد بلكينغتون إلى أمريكا وإسرائيل؟! .. فدائما ما يتم إظهار العداء له في العلن ويتم إيهام الحيوانات بأنه عدو، بينما يتم التقرب إليه في السر ويتم اللعب على طاولته والارتماء في أحضانه كل ليلة؟!

حتى الشعارات أدهشني تطابقها .. ''فلتحيا الطاحونة ولتحيا مزرعة الحيوان'' .. ''جميع الحيوانات متساوية .. لكن بعضها متساو أكثر من الآخر''.

ألا يشبه مشروع بناء الطاحونة مشاريع ''الفناكيش'' التي يروج لها النظام ليل نهار، والتي تستنزف جهد ومال الحيوانات فيما لا طائل ولا فائدة من ورائه إلا خلق أهداف وهمية تلتف حولها الحيوانات لإلهائها وجعلها تحيا على أمل زائف طيلة الوقت؟!

لو ظللت أعدد الرموز بتلك الرواية، فلن تخرج أية شخصية من شخصياتها أو حدث من أحداثها أو جملة من حواراتها عن شخصيات وأحداث وحوارات واقعنا المرير بعد زوال حكم مبارك .. التطابق مرعب ويدل على عبقرية الكاتب تماما كما يدل على غباء الشعوب الثائرة التي تكرر أخطاء الشعوب التي سبقتها في الثورة وتعيد نفس الأخطاء بنفس السيناريو رغم أنها واضحة وضوح الشمس كما عبر عنها جورج أورويل في رائعة كل العصور (مزرعة الحيوان)، والتي بالرغم من وضوحها فإننا نكررها بحذافيرها بمنتهى الإصرار دون زيادة أو نقصان!!.

تفييمي بالدرجات: عشرة من عشرة بلا أدنى تردد.

الجمعة، 11 مارس 2016

حكايتي مع الكونسر فتوار ​ (1)



الزمان: سبتمبر 1987 م

كنت في أواخر الإجازة الصيفية قبل بدء العام الدراسي للصف الثاني الابتدائي، ألهو مع أقراني في الشارع أمام منزلنا وقت العصر .. شاهدت أبي في أول الشارع وهو قادمٌ من عمله ويحمل في يديه أكياس الفاكهة، فتركت أصحابي وهرولت نحوه فرِحًا بقدومه .. طلب أبي مني الدخول للمنزل وترك اللعب لاحتياجي في أمرٍ هامٍ .. تذمرت قليلاً كأي طفلٍ برئٍ يتذمر عندما يحلو لأحد والديه أن يفسدا عليه لهوه .. طلبت من أبي أن يمنحني خمس دقائقٍ إضافية – دائمًا كل الأطفال يحتاجون خمس دقائق إضافية - فرفض والدي وأصر أن أتبعه إلى البيت فورًا .. تركت أقراني ومشيت وراءه وأنا أتمتم بكلماتٍ غير مفهومةٍ مصحوبةٍ بنشيجٍ متقطعٍ .. توقف أبي ونظر لي نظرةً أوقفت الدماء في عروقي، فالتزمت الصمت كأي طفلٍ مؤدبٍ يحترم نفسه عندما ينظر إليه أبوه تلك النظرة .. كنت أتوقع أن يطلب مني أن أشتري أي طلبٍ لأمي لاستكمال الغداء .. خبزٌ .. كيلو طماطم .. كيس ملح .. حزمة جرجير .. باكو شاي .. أو أي شيءٍ من هذه الطلبات التي لا تظهر إلا وقت اللعب.
انتظرت حتى انتهاء أبي من تغيير ملابسه ودخوله دورة المياه ثم تأدية صلاة العصر .. وفي هذه الأثناء سألت أمي عمّا تحتاج لشرائه، فقالت بأنها لا تحتاج لشيءٍ .. لماذا إذن طلبني أبي وجعلني أترك اللعب ما دامت أمي لا تحتاج لشيءٍ؟!
نادى عليَّ أبي بعدما أنهى صلاة العصر، وسألني سؤالاً غير مُتوقَع:
- "تحب تتعلم موسيقى؟"
- "يعني إيه موسيقى يا بابا؟"
- "تعالى معايا بكرة مشوار وأنا أعرفك إيه هي الموسيقى"
طرت من الفرحة، ليس بسبب أنني سأعرف ما هي الموسيقى، ولكن لأنني سأخرج مع أبي في الغد.


********************

في اليوم التالي، خرجت مع أبي منذ الصباح الباكر .. مررنا أولاً على عمله في جاردن سيتي، ثم توجهنا إلى "المشوار" الذي لم أعرف - حتى لحظتها - إلى أين.
- أحنا رايحين فين يا بابا؟
- رايحين معهد الكونسر فتوار.
- إيه التونسر تتوار ده يا بابا؟!
- هتعرف لما نروح.
وصلنا إلى ذلك المكان المكتوب على بوابته الكبيرة من الخارج (أكاديمية الفنون) .. توجهنا إلى أول مبنى صادفنا على اليمين بعد عبور مدخل البوابة، وكان مكتوب على لوحته الجدارية (المعهد العالي للكونسر فتوار) .. كانت له درجات سلم تمهيدية تسبق مدخله الرئيسي الذي يؤدي إلى بهو داخلي واسع يتفرع منه سلمان عن اليمين وعن الشمال يلتقيان في ممر بالدور الأول، يمكن للواقف فيه أن يرى بهو المدخل الرئيسي للمبنى بالدور الأرضي .. انحرفنا يسارًا فرأينا قاعةً في نهاية الدور الأول مكتوب عليها (قاعة أبو بكر خيرت) .. عرفت فيما بعد أنه مهندس معماري وعازف بيانو من جيل الرواد الأوائل وأول عازفٍ مصري وضع الموسيقى المصرية في قالبٍ سيمفوني، وهو الذي أسس معهد الكونسر فتوار في مصر، وهو عم الفنان العبقري (عمر خيرت) .. وقاموا بتسمية تلك القاعة التي رأيناها على اسمه تخليدًا لذكراه.
استكملنا الصعود على أقدامنا على سلمٍ آخر مجاور لقاعة (أبو بكر خيرت) إلى الطابق الذي يليه، فسمعت أصواتًا عاليةً صادرةً من إحدى الغرف كأنها أصوات آلاتٍ موسيقية لكنها صادرة من حنجرةٍ بشريةٍ .. فيما بعد عرفت أن هذا الطابق خاص بالغناء الأوبرالي، الذي كان من أبرز نجومه في ذلك الوقت الفنانة عفاف راضي والفنانة نيفين علوبة.
سألت أبي عن هذا المكان الغريب، فقال لي بأنني سأقابل شخصًا بعد قليلٍ سيسألني بضعة أسئلةٍ وسنمضي سريعًا .. كان اختبارًا للقدرات .. هكذا فهمت لاحقًا.
دخلت الامتحان - الذي لم أكن مستوعبًا أنه امتحان – وطلب مني الممتحِن أن أستمع إلى النغمة التي سيضربها على البيانو وأن أحاول تقليد نفس النغمة بصوتي .. فعلت ما طلبه مني، فضرب نغمةً مختلفةً فقلدت نفس درجتها، وهكذا تكرر الأمر لأكثر من نغمةٍ أخرى .. لا أتذكر تفاصيل إضافية أكثر من أنه طلب مني في نهاية الامتحان أن يرى أصابع يدي، فمددت له يدي الصغيرة .. تفحصها باهتمام، ثم ابتسم لي ابتسامة ودودة وربت على رأسي، ثم انصرفت مع أبي عائدين للمنزل.

********************


كان أبي قد ألحقني في العام المنصرم بمعهد عمرو بن العاص الابتدائي الأزهري القريب من منزلنا .. حيث كانت المعاهد الأزهرية – ولا تزال – تقبل الالتحاق بها للصف الأول الابتدائي في سنٍ أقل من ست سنواتٍ، على عكس المدارس الأخرى التي تشترط ألا يقل السن عند بداية العام الدراسي عن ست سنواتٍ .. فاتخذها أبي فرصةً كي يوفر لي سنةً – وخيرًا فعل - فالتحقت بذلك المعهد الأزهري وأنا في سن خمس سنواتٍ وثمانية أشهرٍ.
بعد أيامٍ قليلةٍ من زيارتنا لمعهد الكونسر فتوار، أخبرني أبي بأنني قد نجحت في اختبار القدرات وتم قبولي في المعهد وتم ترشيحي لتعلم آلة البيانو .. وخيّرني إن كنت أود الاستمرار في المعهد الأزهري أم أنتقل إلى معهد الكونسر فتوار.
أشهد لأبي أنه عوّدني منذ صغري على اختيار قراراتي بنفسي دون إجبارٍ منه، وكان يوضح لي الفارق بين الاختيارات بكل صدقٍ وحياديةٍ ثم يترك لي حرية اختيار القرار .. وكان ينبهني إلى عواقب اختياري إن شعر أنه اختيارٌ خاطئ .. لذلك فأنا أدين له بالفضل في زرع الإحساس بمسئولية القرار داخلي منذ الصغر، وتنشئتي على التحليل المنطقي لأية مشكلةٍ قد تواجهني والتمييز بين البدائل المتاحة لاختيار أفضلها.
وعندما خيّرني أبي بين الاستمرار في المعهد الأزهري وبين الانتقال لمعهد الكونسر فتوار، اخترت الانتقال للكونسر فتوار .. ليس لأنني سأتعلم الموسيقى، ولكن لأنني سأكون مع أبي كل يومٍ في مكان عمله، حيث كان أبي في ذلك الوقت مُنتدَبًا من وزارة الثقافة لمعهد الكونسر فتوار أثناء فترة العام الدراسي لتدريس مادة التربية الفنية (الرسم).
في اليوم التالي توجه أبي إلى ناظر المعهد الأزهري لتقديم طلبٍ لنقلي من المعهد الأزهري إلى معهد الكونسر فتوار .. استقبل ناظر المعهد طلب النقل بمنتهى الدهشة، وقال لأبي: "أَمِنَ الورع والتقوى إلى الرقص والمغنى؟!!" .. فرد عليه أبي ردًا تلقائيًا عبقريًا: "لعل الله يهدي به قومًا ضالين" .. في النهاية رفض ناظر المعهد التوقيع على طلب نقلي، وطلب من أبي التصرف بعيدًا عنه .. ولولا أن أبي كان يعرف "ناس مهمين" جعلوه ينهي إجراءات طلب النقل عن طريق المديرية التعليمية، لما تركتُ المعهد الأزهري، ولما كان لهذه الحكاية التي سأرويها لكم - مع معهد الكونسر فتوار - أن توجد من الأساس.

وللحكاية بقية


























الثلاثاء، 8 مارس 2016

بمناسبة اليوم العالمي للمرأة



في مناسبة #اليوم_العالمي_للمرأة .. رأيت اليوم كثيرا من بنات الجنس الناعم ينشرن صورا وتعليقات تفيد بأن ''وراء كل امرأة عظيمة، نفسها'' !! .. فأرجو منهن توضيحا لما يزعمن: هل ظهرت هذه المرأة الخارقة على وجه الأرض وحدها دون أب أو أم أو أخ أو أخت أو معلم أو أي شخص آخر أثر في بناء شخصيتها وساهم في أن تصل هذه المرأة ''الخارقة'' إلى هذه الدرجة من العظمة؟! هذا بافتراض أنها غير متزوجة أو أن زوجها غير ذو تأثير على عظمتها.
لقد خلق الله الرجل والمرأة كليهما ليكمل بعضهما بعضا، فلا يتزن نظام الحياة إذا ما تخلى أي منهما عن الآخر، ولو قرر الرجال أو النساء أن يستقل كل منهما بذاته لاختل التوازن البشري ولحدث فناء سريع للجنس البشري .. فكيف تقولين بعد ذلك أن وراء كل امرأة عظيمة، نفسها؟!!
وتصحيحا للمقولة المتداولة اليوم، فأرى أنها يجب أن تكون: أن وراء كل امرأة عظيمة، أب عظيم وأم عظيمة بذلا من مجهودهما وصحتهما ووقتهما وعمرهما الكثير من أجل أن تصل ابنتهما لما وصلت إليه من عظمة.
أختي الغالية وشريكتي في الحياة على هذا الكوكب .. تدبري قبل أن تنشري أي كلام والسلام :) .. وتذكري قول الله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).